المطلب الثالث : تقدير النظرية الماركسية
رأينا فيما نقدم كيف اِستطاع ماركس أن يخرج بنظرية جامعة تفسر سير النظم الاقتصادية بصفة عامة ,والنظام الرأسمالي بصفة خاصة ,ولا ريب انه نجح إلى مدى بعيد في إن يقيم نظاما فكريا متماسك الأجزاء غير أن المناقشات التي ثارت حول هذه الأفكار أثمرت العديد من الانتقادات التي حدت من فعاليتها وطبعتها بطابع نسبي .
فمن ناحية تقوم الحتمية الاجتماعية على افتراض وجود قوانين طبيعية تحكم التطور الاجتماعي ومن الصعب الاعتقاد بان المجتمعات لا تملك القدرة على تعديل مجريات الأمور أو أنها تتطور في طريق جامد ثابت لا انفكاك عنه بل إن أمام أي مجتمع في أي وقت من الأوقات عدة طرق ممكنة لتطويره , ولسلوك أحداها دون الأخرى مرهون بفعل الأفراد صحيح أن كل مجتمع مثقل بماضيه وهذا يحدد له بعض الشيء ما يعتبر ممكننا وكن شتان بين هذا القيد العام بين ما يقرره ماركس من أن كل مجتمع يسير في طريق محتوم لا يملك الحياد عنه إما التفسير المادي للتاريخ فهو تكهن فلسفي يحتمل الصواب والخطاء وهو في ذالك على قدم المساواة مع التفسير المثالي الذي قام به هيجل ولا يستطيع احد أن يقطع بصحة أو بطلان في مجال التكهنات ويصدق ذالك التطور الديالكتيكي الذي اعتمده ماركس في تحليلاته المادية
التاريخ ولهذا فان تتابع حججه الجدلية يمكن أن يحاجي بها ماركس نفسه فإذا صح أن لكل فكرة "نظرية" نقيض ثم فكرة جامعة فان من الصعب استبعاد النظام الاشتراكي لمن النظرية النقيضة فالاشتراكية بدورها تحوي بذور فناءها وبالتالي فانه يصعب التسليم بان النظام الشيوعي (المرحلة العليا للمجتمع الاشتراكي ) هو نهاية التطور وآخر النظم التي يشهدها المجتمع الإنساني أما بالنسبة لنظرية ماركس في مآل الرأس مالية فلقد فلقد كان لها الفضل بصورة حاسمة إلى عدد من المساوئ التي يعاني منها النظام الرأس مالي و هذا ما جعل أنصار يقرون بها و يسعون لتداركها و لعل محاولات الإصلاح الفكري و التغيرات الهيكلية التي حدثت في النظام الرأس مالي بتجنب بعض الآثار الضارة و خاصة ما يتعلق منها بتوزيع الدخل ومعالجة البطالة و الأزمات الاقتصادية و قد قضت إلى إنسانية هذا النظام و خيرت طريقة أدائه لوظائفه فهنا نحن نرى كيف اِمتد نشاط الدولة إلى كافة فروع النشاط الاِقتصادي و صدرت التشريعات اللازمة لحماية العمال من حيث مستوى الأجور و ظروف العمل و تشغيل النساء و الأطفال و هذا فضلا على رقابة الدولة على اِحتكارات و تركز الثروة و هكذا صارت الرأسمالية إلى طريق لا يتفق مع ما تنبأ به ماركس
أما الاِختلاف بين ماركس وخصومه حول تراكم الرأسمالية فقد اِنحصر في مغزى هذا التراكم فهو دعامة من دعامات الاِستغلال ويرى في خصومه علامة من علامات التقدم الاِقتصادي فتراكم الرأسمال شرط جوهري لاِرتفاع مستوى الأجور لزيادة فائض القيمة كما اِعتقد ماركس.
أما تركز الرأسمال في أيدي قليلة فلا يمكن أن يبلغ مبلغ القانون الذي يحدث أثرا مستقلا عن إرادة الأفراد. فالوقع أن الدولة في أغلب البلاد الرأسمالية تملك من الإجراءات ما يحول دون تركز رؤوس الأموال أو يخفف من الآثار الضارة . و الضعف الأكبر في نظرية ماركس يرجع إلى اِعتمادها اِعتمادا كليا على نظرية العمل في القيمة فنظريته تدور وجودا وعدما مع هذه النظرية ومن العبث القول أن قيمة السلع تتحدد بمقدار ما تتضمنه – ومن غير منطقي في التغير أن ترجع كل هذه العناصر إلى عنصر العمل والقول بأن الرأس المال مختزن من قبيل الخيال الخصب ولا يمكن يرقى إلى مستوى التحليل العلمي ، أخطر من ذلك أن نظرية العمل في القيمة تغفل إغفالا كليا جانب الطلب في تحديد قيمة السلعة أو ثمنها وسرى فيما بعد أن قيمة السلعة أنها هي نتيجة التفاعل بين قوى الطلب وقوى العرض .إذن نحن استعبدنا نظرية العمل في القيمة
لبطلانها وجب علينا أن نستعبدها بالتبعية نظرية فائض القيمة ذلك أنها تقوم على افتراض أن قوة العمل
-4-
للعمال تتحدد بساعات العمل اللازمة لإنتاجها ووجب أيضا أن نستعبد نظرية تناقص معدل الربح لأنها تقوم
على افتراض الربح ينشأ من الرأس المال النقدي المخصص لاستغلال الطبقة العاملة و وجب أخيرا أن نستبعد فكرة تنازع الطبقات لأنها تفترض قيام الرأسمالية على طبقة الأهم لها إلا استغلال الطبقة العاملة التي تعمل
على دفع هذا الاستغلال غير أن ذلك كله لا يبقى أن النظرية الماركسية تركت أثرا عميقا في تاريخ الإنسانية وفي تطور الفكر الاقتصادي فالسلامة المنطقية للنظرية شٍيء و أثرها شيء آخر وليست أصح النظريات أبعدها أثرا في حياة الإنسان أما اثر النظرية الماركسية في تاريخ الإنسانية فيكفي الإثارة إلا أنها كانت مصدر الإلهام للثورة السوفيتية التي امتدت سلطانها السياسي والفكري إلى ما يقرب من نصف سكان الكرة الأرضية أما اثر ماركس في الفكر الاقتصادي فلاشك أن هجماته العنيفة على النظرية التقليدية أجبرت أصحاب هذه النظرية على إعادة النظر فيها فيما انتهوا إليه من أحكام و أسفر ذلك عن تغيير كبير في بعض نواحي النظرية الماركسية في الفضاء على الأفكار التي كانت تدعم الرأسمالية الغير مقيدة وأصبح تدخل الدول في النشاط الاقتصادي من الأمور المسلمة كذلك ساهمت ذلك النظرية لفت الأنظار إلى ظاهرة البطالة وبعدان كانت النظرية التقليدية تقلل في خطر تلك الظاهرة وتعتبرها عارض مؤقتا يمكن تجاهله أصبحت من أهم ما نعني به النظرية الاقتصادية في الوقت الحاضر ولم يقف اثر ماركس عند الدارة الاقتصادية بل تجاوز ذلك إلى علم الاجتماعي و السياسة (5) يتبع